أجمل أشعار علي محمود طه شاعر الجندول

علي محمود طه 1902-1949 شاعر مصري ولد في مدينة المنصورة يعد من أعلام الرومانسية العربية تدرج في سلم الوظائف الحكومية حتى صار وكيلا لدار الكتب المصرية.

الشاعر علي محمود طه
الشاعر علي محمود طه

فلسطين
أخي , جاوز الظالمون المـدى *** فحق الجهاد , وحق الفـدا
أنتركهم يغصبون العروبـــــــــ *** ـــــــة مجد الأبوة والســؤددا ؟
وليسوا بغير صليل السيـوف *** يجيبون صوتا لنا أو صدى
فجرد حسامك من غمــده *** فليس لـه, بعد , أن يغمـدا
أخي, أيهـــا العربي الأبي *** أرى اليوم موعدنا لا الغـدا
أخي, أقبل الشرق في أمــة *** ترد الضلال وتحيي الهـدى
أخي, إن في القدس أختا لنـا *** أعد لها الذابحون المــدى
صبرنا على غدرهم قادريـن *** وكنا لهم قدرا مرصــدا
طلعنا عليهم طلوع المنــون *** فطاروا هباء , وصاروا سدى
أخي, قم إلى قبلة المشرقيـن *** لنحمي الكنيسة والمسجـدا
يسوع الشهيد على ارضها *** يعانق, في جيشه , احمدا
أخي, قم إليها نشق الغمـار *** دما قانيا ولظى مرعــدا
أخي, ظمئت للقتال السيوف *** فأورد شباها الدم المصعـدا
أخي, إن جرى في ثراها دمي *** وأطبقت فوق حصاها اليدا
ونادى الحمام وجن الحسام *** وشب الضرام بها موقــدا
ففتش على مهجـــة حرة *** أبت أن يمر عليها العــدا
وخذ راية الحق من قبضــة *** جلاها الوغى , ونماها الندى
وقبل شهيدا على أرضهــا *** دعا باسمها الله واستشهـدا
فلسطين يفدي حماك الشباب *** وجل الفدائي والمفتــدى
فلسطين تحميك منا الصـدور *** فإما الحياة وإمــا الردى


حديث قبلة
تسائلني حلوة المبسم : *** متى أنت فبلتني في فمي ؟
تحدثت عني و عن قبلة *** فيا لك من كاذب ملهم !
قلت أعابثها : بل نسيت , *** و في الثغر كانت و في المعصم
فإن تنكرينها فما حيلتي *** و ها هي ذي شعلة في دمي
سلي شفتيك بما حستاه *** من شفتي شاعر مغرم
ألم تغمضي عندها ناظريك ؟ *** و بالراحتين ألم تحتمي ؟
هبي أنذها نعمة نلتها *** و من غير قصد .. فلا تندمي !
فإن شئت أرجعتها ثانيا *** مضاعفة للفم المنعم
فقالت و غضذت بأهدابها : *** إذا كان حقا فلا تحجم
سأغمض عيني كي لا أراك *** و ما في صنيعك من مأثم
كأنك في الحلم قبلتني *** فقلت و أفديك أن تحلمي !!


كرنفال فينيسيا
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
أين عشاقك سمار الليالي *** أين من واديك يا مهد الجمال
موكب الغيد و عيد الكرنفال *** وسرى الجندول في عرض القنال
بين كأس يشتهي الكرم خمره
و حبيب يتمنى الكأس ثغره
إلتقت عيني به أول مره
فعرفت الحب من أول نظره
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
مر بي مستضحكا في قرب ساقي *** يمزج الراح بأقداح رقاق
قد قصدناه على غير اتفاق *** فنظرنا, و ابتسمنا للتلاقي
و هو يستهدي على المفرق زهره
و يسوي بيد الفتنة شعره
حين مست شفتي أول قطره
خلته ذوب في كأسي عطره
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
ذهبي الشعر, شرقي السمات *** مرح الأعطاف, حلو اللفتات
كلما قلت له: خذ . قال : هات *** يا حبيب الروح ياأنس الحياة
أنا من ضيع في الأوهام عمره
نسي التاريخ أو أنسي ذكره
غير يوم لم يعد يذكر غيره
يوم أن قابلته أول مره
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
قال: من أين؟ و أصغى و رنا *** قلت: من مصر , غريب ههنا
قال: أن كنت غريبا فأنا *** لم تكن فينيسيا لي موطنا
أين مني الآن أحلام البحيره
و سماء كست الشطآن نضرة
منزلي منها على قمة صخره
ذات عين من معين الماء ثره
أين من فارسوفيا هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
قلت , و النشوة تسري لساني: *** هاجت الذكرى , فأين الهرمان؟
أين وادي السحر صداح المغاني؟ *** أين ماء النيل؟ أين الضفتان؟
آه لو كنت معي نختال عبره
بشراع تسبح الأنجم إثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره
حلم ليل من ليالي كليوبتره
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
أيها الملاح قف بين الجسور *** فتنة الدنيا و أحلام الدهور
صفق الموج لولدان و حور *** يغرقون الليل في ينبوع نور
ما ترى الأغيد وضاء الأسره ؟
دق بالساق و قد أسلم صدره
لمحب لف بالساعد خصره؟
ليت هذا الليل لا يطلع فجره !
أين من عيني هاتيك المجالي *** يا عروس البحر, يا حلم الخيال
رقص الجندول كالنجم الوضي *** فاشد يا ملاح بالصوت الشجي
و ترنم بالنشيد الوثني *** هذه الليلة حلم العبقري
شاعت الفرحة فيها و المسره
و جلا الحب على العشاق سره
يمنه مال بي على الماء و يسره
إن للجندول تحت الليل سحره
أين يا فينيسيا تلك المجالي؟ *** أين عشاقك سمار الليالي؟
أين من عيني يا مهد الجمال؟ *** موكب الغيد و عيد الكرنفال؟
يا عروس البحر, يا حلم الخيال !!


غرفة الشاعر
أيها الشاعر الكئيب مضى الليـ *** ـل و مازلت غارقا في شجونك
مسلما رأسك الحزين إلى الفكـ *** ـر و للسهد ذابلات جفونك
و يد تمسك اليراع و أخرى *** في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناضب به حر أنفا *** سك يطغى على ضعيف أنينك
لست تصغي لقاصف الرعد في الليـ *** ـل و لا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمـ *** ـت و دب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشا *** حب يهفو عليك من إشفاق
و بقايا النيران في الموقد الذا *** بل تبكي الحياة في الأرماق
***
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض *** و حطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليـ *** ـل و مازلت سادرا في مكانك
ليس يحنو الدجى عليك ولا يأ *** سى لتلك الدموع في أجفانك
ما وراء السهاد في ليلك الدا *** جي و هلا فرغت من أحزانك؟
***
فقم الآن من مكانك و اغنم *** في الكلاى غطة الخلي الطروب
و التمس في الفراش دفئا ينسـ *** ـك نهار الأسى و ليل الخطوب
لست تجزي من الحياة بما حمـ *** ـلت فيها من الضنى و الشحوب
إنها للمجون و الختل و الزيـ *** ـف و ليست للشاعر الموهوب!


الملاح التائه
أيها الملاح قم و اطو الشراعا *** لم نطوي لجة الليل سراعا
جدف الآن بنا في هينة *** و جهة الشاطئ سيرا و اتباعا
فغدا يا صاحبي تأخذنا *** موجة الأيام قذفا و اندفاعا
عبثا تقفو خطا الماضي الذي *** خلت أن البحر واراه ابتلاعا
لم يكن غير أويقات هوى *** وقفت عن دورة الدهر انقطاعا
فتمهل تسعد الروح بما *** وهمت أو تطرب النفس سماعا
ودع الليلة تمضي إنها *** لم تكن أول ما ولى وضاعا
سوف يبدو الفجر في آثارها *** ثم يمضي في دواليك تباعا
هذه الأرض انتشت مما بها *** فغفت تحلم بالخلد خداعا
قد طواها الليل حتى أوشكت *** من عميق الصمت فيه أن تراعا
إنه الصمت الذي في طيه *** أسفر المجهول و المستور ذاعا
سمعت فيه هتاف المنتهى *** من وراء الغيب يقريها الوداعا
أيها الأحياء غنوا و اطربوا *** و انهبوا من غفلات الدهر ساعا
آه ما أروعها من ليلة *** فاض في أرجائها السحر و شاعا
نفخ الحب بها من روحه *** و رمى عن سرها الخافي القناعا
و جلا من صور الحسن لنا *** عبقريا لبق الفن صناعا
نفحات رقص البحر لها *** و هفا النجم خفوقا و التماعا
و سرى من جانب الأرض صدى *** حرك العشب حنانا و اليراعا
بعث الأحلام من هجتها *** كسرايا الطير نفرن ارتياعا
قمن بالشاطئ من وادي الهوى *** بنشيد الحب يهتفن ابتداعا
أيها الهاجر عز الملتقى *** وأذبت القلب صدا و امتناعا
أدرك التائه في بحر الهوى *** قبل أن يقتله الموج صراعا
وارع في الدنيا طريدا شاردا *** عنه ضاقت رقعة الأرض اتساعا
ضل في الليل سراه , و مضى *** لا يرى في أفق منه شعاعا
يجتوي اللافح من حرقته *** و عذاب يشعل الروح التياعا
و الأسى الخالد من ماض عفا *** و الهوى الثائر في قلب تداعى
فاجعل البحر أمانا حوله *** و املأ السهل سلاما و اليفاعا
و امسح الآن على آلامه *** بيد الرفق التي تمحو الدماعا
و قد الفلك إلى بر الرضى *** و انشر الحب على الفلك شراعا


أغنية ريفية
إذا داعب الماء ظل الشجر *** و غازلت السحب ضوء القمر
ورددت الطير أنفاسها *** خوافق بين الندى و الزهر
و ناحت مطوقة بالهوى *** تناجي الهديل و تشكو القدر
و مر على النهر ثفر النسيم *** يقبل كل شراع عبر
و أطلعت الأرض من ليلها *** مفاتن مختلفات الصور
هنالك صفصافة في الدجى *** كأن الظلام بها ما شعر
أخذت مكاني فس ظلها *** شريد الفؤاد كئيب النظر
أمر بعيني خلال السماء *** و أطرق مستغرقا في الفكر
أطالع و جهك تحت النخيل *** و أسمع صوتك عند النهر
إلى أن يمل الدجى و حشتي *** و تشكة الكآبة مني الضجر
و تعجب من حيرتي الكائنات *** و تشفق مني نجوم السحر
فأمضي لأرجع مستشرفا *** لقاءك في الموعد المنتظر!!


القمر العاشق
إذا ما طاف بالشرفة ضوء القمر المضنى
و رف عليك مثل الحلم أو إشراقة المعنى
و أنت على فراش الطهر , كالزنبقة الوسنى
فضمى جسمك العارى , و صونى ذلك الحسنا
. . .
أغار عليك من ساب , كأن لضوئه لحنا
تدق له قلوب الحورأشواقا إذا غنى
رقيق اللمس , عربيدٌ , بكل مليحة يعنى
جرىءٌ , إن دعاه الشوق , أن يقتحم الحصنا
. . .
أغار أغار إن قبل هذا الثغر أو ثنى
و لف النهد فى لين, وضم الجسد اللدنا
فإن لضوئه قلبا و إن لسحره جفنا
يصيد الموجة العذراء من أغوارها وهنا
. . .
فردى الشرفة الحمراء دون المخدع الأسنى
وصونى الحسن من ثورة هذا العاشق المضنى
مخافة أن يظن الناس فى مخدعك الظنا
فكم أقلقت من ليل , وكم من قمر جنا


طارق بن زياد في طريقه إلى الأندلس
أشباح جن فوق صدر الماء *** تهفو بأجنحة من الظلماء ؟
أم تلك عقبان السماء وثبن من *** قنن الجبال على الخضم النائي ؟
لا, بل سفين لحن تحت لواء *** لمن السفين ترى و أي لواء ؟
و من الفتى الجبار تحت شراعها *** متربصا بالموج و الأنواء
يعلي بقبضته حمائل سيفه *** و يضم تحت الليل فضل رداء
و ينيل ضوء النجم عالي جبهة *** من وسم إفريقية السمراء
ذهب ببوتقة السنى من ذوبه *** مسحت محياه يد الصحراء
جلت فيه الصحارى سحرها *** تحت النجوم الغر و الأنداء
و سما بحر ما تطامن موجه *** من قبل لابن الواحة العذراء
بحر أساطير الخيال شطوطه *** و مسابح الإلهام و الإيحاء
و مدائن سحرية شارفنه *** بنخيلها و ضفافها الخضراء
و معابد شم , و آلهة على *** سفن ذواهب بينهن جوائي
أبطال يونان على أمواجه *** من قبل لابن الواحة العذراء
يتجاذبون الغار تحت سمائه *** يتناشدون ملاحم الشعراء
ما زال يرمي الروم و هو سليلهم *** و يديل من قرطاجة العصماء
حتى طلعت به فكنت حديثه *** عجبا ! و أي عجائب الأنباء
و يسائلون بك البروق لوامعا *** و الموج في الإزباد و الإغراء
من علم البدوي نشر شراعها ! *** و هداه للإبحار و الإرساء !
أين القفار من البحار و أين من *** جن الجبال عرائس الدأماء ؟
يا ابن القباب الحمر ويحك ! من رمى *** بك فوق هذي اللجة الزرقاء
تغزو بعينيك الفضاء و خلفه *** أفق من الأحلام و الأضواء
جزر منورة الثغور كأنها *** قطرات ضوء حفاف إناء
و الشرق من بعد حقيقة عالم *** و الغرب من قرب خيالة رائي
ضحكت بصفحته المنى و تراقصت *** أطياف هذي الجنة الخضراء
و وثبت فوقها صخورها و تلمست *** كفاك قلبا ثائر الأهواء
فكأنما لك في ذراها موعد *** ضربته أندلسية للقاء !
ووقفت و الفتيان حولك , و انبرت *** لك صيحة مرهوبة الأصداء:
هذي جزيرة إن جهلتم أمرها *** أنتم بها رهط من الغرباء
البحر خلفي و العدو إزائي *** ضاع الطريق إلى السفين ورائي !!
... و تلفتوا فإذا الخصم سحابة *** حمراء مطبقة على الأرجاء
قد أحرق الربان كل سفينة *** من خلفه إلا شراع رجاء
ألقى عليه الفجر خيط أشعة *** بيضاء فوق الصخرة الشماء
و أتى النهار و سار فيه طارق *** يبني لملك الشرق أي بناء
حتى إذا عبرت ليال طوفت *** أحلامه بالبحر ذات مساء
يرعى على الأفق المرصع قرية *** أعظم بها للغزو من ميناء
مد المساء على خلجانها *** ظلا , فنامت فوق صدر الماء !


ميلاد شاعر
هبط الأرض كالشعاع السني *** بعصا ساحر و قلب نبي
لمحة من أشعة الروح حلت *** في تجاليد هيكل بشري
ألهمت أصغريه من عالم الحكـ *** ـمه و النور كل معنى سري
و حبته البيان ريا من السحـ *** ـر به للعقول أعذب ري
حينما شارفت به أفق الأر *** ض زها الكون بالوليد الصبي
و سبى الكائنات نور محيا *** ضاحك البشر عن فؤاد رضي
صور الحسن حوم حول مهد *** حف بالورد و العمار الزكي
و على ثغره يضيء ابتسام *** رف نورا بأرجوان ندي
و على راحتيه ريحانة تنـ *** ـدى و قيثارة بلحن شجي
فحنت فوق مهده تتملى *** فجر ميلاد ذلك العبقري
و تساءلن حيرة : ملك جا *** ء إلينا في صورة الإنسي؟
من ترى ذلك الوليد هـ *** ـش له الكون من جماد و حي؟
من تراه؟ فرن صوت هتوف *** من وراء الحياة شاجي الدوي
إن ما تشهدون ميلاد شاعر
***
كان وجه الثرى كوجه الماء را *** ئق الحسن مستفيض الضياء
حين ولى الدجى و أقبل فجر *** واضح النور مشرق اللألاء
بهج في السماء و الأرض يهدى *** من غريب الخيال و الإيحاء
صفقت عنده الخمائل نشوى *** و شدا الطير بين عود و ناء
مظهر يبهر العيون و سحر *** هز قلب الطبيعة العذراء
و جلا من بدائع الفن روضا *** نمقته أنامل الإغراء
ما الربيع الصناع أوفى بنانا *** منه في دقة و حسن أداء
نسق الأرض زينة و جلاها *** قسمات من وجهه الوضاء
ربوة عند جدول عند روض *** عند غيض و صخرة عند ماء
فزها الفجر ما بدى و تجلى *** و ازدهى بالوجود أي ازدهاء
قال:لم تبد لي الطبيعة يوما *** حين أقبلت مثل هذا الرواء
لا و لم يسر ملء عيني و أذني *** مثل هذا السني و هذا الغناء
أي بشر لها تجملت الأر *** ض و زافت في فاتنات المرائي؟
علها نبئت من الغيب أمرا *** حملته لها نجوم المساء
قال ماذا أرى ؟ فردد صوت *** كصدى الوحي في ضمير السماء
إن هذا يا فجر ميلاد شاعر
كان فجر و كان ثم صباح *** فيه للحسن غدوة و رواح
بكرت للرياض فيها عذارى *** تزدهيهن صبوة و مراح
حين لاحت لهن رن هتاف *** و علت بالدعاء منهن راح
قلن : ما لأجمل الصباح فما حـ *** ـل على الأرض مثل هذا صباح
فتعالوا بنا نغني و نلهو *** فهنا اللهو و الغناء يتاح
و هنا جدول على صفحتيه *** يرقص الظل و السني و الوضاح
و على حافتيه قام يغنيـ *** ـنا من الطير هاتف صداح
و فراش له من الزهر ألوا *** ن و من ريق الشعاع جناح
دف في نشوة يناديه نوا *** ر و عطر من الثرى فواح
و هنا ربوة تلألأ فيها *** خضرة العشب و الندى اللماح
و نسيم كأنه النفس الحا *** ئر تصغي لهمسه الأدواح
مثل هذا الصباح لم يلد الشر *** ق و لم تنجب الشموس الوضاح
لكأنا بالكون أعلام ميلا *** د و عرس قامت له الأفراح
أي حسن نرى؟ فردد صوت *** شبه نجوى تسرها أرواح
إن هذا الصباح ميلاد شاعر
و تجلى المساء في ضوء بدر *** و شفوف غر الغلائل حمر
و سماء تطفو و ترسب فيها الـ *** ـسحب كالرغو فوق أمواج بحر
صور جمة المفاتن شتى *** كرؤى الحلم أو سوانح فكر
لا ترى النفس أو تحس لديها *** غير شجو يفيض من نبع سحر
أفق الأرض لم يزل في حواشيـ *** ـه صدى حائر بألحان طير
و بأحنائه يرف ذماء *** من سني الشمس خافق لم يقر
و على شاطئ الغدير ورود *** أغمضت عينها لمطلع فجر
وسرى الماء هادئا في حوا *** فيه يغني ما بين شوك و صخر
و كأن النجوم تسبح فيه *** قبلات هفت بحالم ثغر
و كأن الوجود بحر من النو *** ر على أفقه الملائك تسري
هتفت نجمة: أرى الكون تبدو *** في أساريره مخايل بشر
و أرى ذلك المساء يثير السحـ *** ـر و الشجو ملء عيني و صدري
ترانا بليلة الوحي و التنـ *** ـزيل؟ أم ليلة الهوى و الشعر؟
ما لهذا المساء يشغفنا حبـ *** ـا و يروي بنا الفتون و يغري
أي سر ترى؟فرن هتاف *** بنجي من الصدى مستسر
إن هذا المساء ميلاد شاعر
قمر مشرق يزيد جمالا *** كلما جد في السماء انتقالا
و سكون يرقى الفضاء جناحا *** ه على الأرض يضفوان جلالا
هذه ليلة يشف بها الحسـ *** ـن و يهفو بها الضياء اختيالا
جوها عاطر النسيم يثير الـ *** ـشجو و الشعر و الهوى و الخيالا
و إذا النهر شاطئا و نميرا *** يتبارى أشعة و ظلالا
و سرى فيه زورق لحبيبـ *** ـن شجيين ينشدان وصالا
يبعثان الحنين في صدر ليل *** ليس يدري الهموم و الأوجالا
شهد الحب منذ كان روايا *** ت على مسرح الحياة توالى
و جرت ملء مسمعيه أحاديـ *** ـث عفا ذكرها لديه و دالا
ذلك الباعث الأسى و المثير الـ *** ـنار في مهجة المحب اشتعالا
لم يجب قلبه لميلاد نجم *** لا و لم يبك للبدور زوالا
بيد أن القضاء أوحى إليه *** ليذوق الآلام و الآمالا
فأحس الفؤاد يخفق منه *** و رأى النور جائلا حيث جالا
و استخفته من شفاه الحبيـ *** ـبين شؤون الهوى فرق و مالا
و تجلت له الحياة و ما فيـ *** ـها فراعته فتنة و جمالا
فجثا ضارعا: أرى الكون ربي *** غير ما كان صورة و مثالا
لم يكن يعرف الصبابة قلبي *** أو تعي الأذن للغرام مقالا
أتراها تغيرت هذه الأر *** ض أم الكون في خيالي حالا
رب ماذا أرى؟ فرن هتاف *** مستسر الصدى يجيب السؤالا
إن هذا يا ليل ميلاد شاعر
***
و تجلى الصدى الحبيب الساحر *** في محيط من الأشعة غامر
و سكون يبث في الكون روعا *** وقفت عنده الليالي الدوائر
و ستكان الوجود و التف الدهـ *** ـر و أصغت إلى صداه المقادر
لم يبن صورة و لكن راته *** بعيون الخيال منا البصائر
قال: يا شاعري الوليد سلاما *** هزت الأرض يوم جئت البشائر
فإليك الحياة شتى المعاني *** و إليك الوجود جم المظاهر
لا تقل كم أخ لك اليوم في الأ *** رض شقي الوجدان أسوان حائر
إن تكن ساورته في الأرض آلا *** م و حفت به الجدود العواثر
فلكي يستشف من خلل الغيـ *** ـب جمالا يذكي شباب الخواطر
و لكي ينهل السعادة من نبـ *** ـع شهي الورود عذب المصادر
فلكم جاء بالخيال نبي *** و لكم جن بالحقيقة شاعر
إنما يسعد الوجود و تشقو *** ن و إني لكم مثيب و شاكر
و لكم جنتي اصطفيتكم اليو *** م لتحيوا بها جميل المآثر
فانسقوها جداولا و رياضا *** و اجعلوها سرح النهى و النواظر
اجعلوا النهر كيف شئتم و مدوا *** شاطئيه بين المروج النواضر
ماؤه ذوب خمرة و سنا شمـ *** ـس وريا ورد و ألحان طائر
وضعوا هضبة تطل عليه *** ذات صخر منور العشب عاطر
واغرسوا النخلة الجنية فوق النبـ *** ـع في الموقف البديع الساحر
و اجعلوا جنتي قصيدة شاعر
***
أدخلوا الآن أيها المحسنونا *** جنة كنتم بها توعدونا
اجعلوها من البدائع زونا *** و املأوها من الجمال فنونا
املأوها فنا و ليس فتونا *** و انشروا الصفو فوقها و السكونا
غير لحن يرف فيها حنونا *** تتغنى به الطيور و كونا
و سنا مشرق يضيء الدجونا *** سرمدي الشعاع يمحو المنونا
رائق النور ليس يعشي العيونا *** وتغنوا بها كما تشتهونا
و صفوها جداولا و عيونا *** وورودا ندية و غصونا
لا تثيروا بها الهوى و المجونا *** و احذروا أن تذكروا المجنونا
فلقد ثاب من هواه شجونا *** و خلا مهجة و جف شؤونا
و هو في جنتيه أسعد شاعر
***
أيها الشاعر اعتمد قيثارك *** و اعزف الآن منشدا أشعارك
و اجعل الحب و الجمال شعارك *** و ادع ربا دعا الوجود و بارك
فزها و ازدهى بميلاد شاعر


قبلة
قبلة من ثغرك البا *** سم دنيا و حياة
تلتقي الروحان فيها *** و المنى و الصبوات
لغة وحدت الألـ *** ـسن فيها و اللغات
نبعها القلب و مجرا *** ها الشفاه النضرات
***
لغة قر الشتيت الشـ *** ـمل فيها و تواءم
و بها الأعين في غيـ *** ـر حديث تتفاهم
من ترى علمها بالـ *** أمس حواء و آدم؟
لم تزل جدتها و هـ *** ـي حديث يتقادم
***
***
قبلة من ثغرك البا *** سم تمحو كل ما بي
و تواريني عن النا *** س و عن دنيا العذاب
و تنسي القلب ما جر *** رع من سم و صاب
قبلة تمزج أنفا *** سك بالقلب المذاب
***
رب ليل مر أفنيـ *** ـناه ضما و عناقا
و أدرنا من حديث الـ *** ـحب خمرا نتساقى
في طريق ضرب الزهـ *** ـر حواليه نطاقا
و تجلى البدر فيه *** و صفا الجو وراقا
و لزمن الصمت إلا *** نظرات تتكلم
و شفاها عن جراح الـ *** ـقلب راحت تتبسم
صحت بي رعبا و مارا *** عك قلب يتحطم
نبأتني النفس بالبيـ *** ـن غدا و النفس تلهم
***
ثم كان الغد ما نبـ *** ـبئت هجرا و فراقا
و نسينا قبلة سا *** غت على الأمس مذاقا
فالتقينا و افترقنا *** و كأن لم نتلاقا!!
***
ثم كان الغد ما نبـ *** ـبئت هجرا و فراقا
و نسينا قبلة سا *** غت على الأمس مذاقا
فالتقينا و افترقنا *** و كأن لم نتلاقا!!

تابعنا على فيسبوك

×