نص خطاب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات .. جلسة الكنيست الخاصة رقم 43 للكنيست التاسعة بتاريخ 20/11/1977 الساعة الرابعة مساء
السيد الرئيس
أيها السيدات والسادة
إسمحوا لي أولا أن أتوجه إلى السيد رئيس الكنيست بالشكر الخاص, لإتاحته هذه الفرصة, لكي أتحدث إليكم. وحين أبدأ حديثي أقول :
السلام عليكم ورحمة الله, والسلام لنا جميعا, بإذن الله.
السلام لنا جميعا, على الأرض العربية وفي إسرائيل, وفي كل مكان من أرض هذا العالم الكبير, المعقد بصراعاته الدامية, المضطرب بتناقضاته الحادة, المهدد بين الحين والحين بالحروب المدمرة, تلك التي يصنعها الإنسان, ليقضي بها على أخيه الإنسان. وفي النهاية, وبين أنقاض ما بنى الإنسان, وبين أشلاء الضحايا من بني الإنسان, فلا غالب ولا مغلوب, بل إن المغلوب الحقيقي دائما هو الإنسان, أرقى ما خلقه الله. الإنسان الذي خلقه الله, كما يقول غاندي, قديس السلام, "لكي يسعى على قدميه, يبني الحياة, ويعبد الله".
وقد جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين, لكي نبني حياة جديدة, لكي نقيم السلام. وكلنا على هذه الأرض, أرض الله, كلنا, مسلمين ومسيحيين ويهود, نعبد الله, ولا نشرك به أحدا. وتعاليم الله ووصاياه, هي حب وصدق وطهارة وسلام.
وإنني ألتمس العذر لكل من استقبل قراري, عندما أعلنته للعالم كله أمام مجلس الشعب المصري, بالدهشة, بل الذهول. بل إن البعض, قد صورت له المفاجأة العنيفة, أن قراري ليس أكثر من مناورة كلامية للاستهلاك أمام الرأي العام العالمي, بل وصفه بعض آخر بأنه تكتيك سياسي, لكي أخفي به نواياي في شن حرب جديدة.
ولا أخفي عليكم أن أحد مساعدي في مكتب رئيس الجمهورية, اتصل بي في ساعة متأخرة من الليل, بعد عودتي إلى بيتي من مجلس الشعب, ليسألني, في قلق : وماذا تفعل, يا سيادة الرئيس, لو وجهت إليك إسرائيل الدعوة فعلا؟ فأجبته, بكل هدوء : سأقبلها على الفور.
لقد أعلنت أنني سأذهب إلى آخر العالم. سأذهب إلى إسرائيل, لأنني أريد أن أطرح الحقائق كاملة أمام شعب إسرائيل.
إنني ألتمس العذر لكل من أذهله القرار, أو تشكك في سلامة النوايا وراء إعلان القرار. فلم يكن أحد يتصور أن رئيس أكبر دولة عربية, تتحمل العبء الأكبر والمسؤولية الأولى في قضية الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط, يمكن أن يعرض قراره بلاستعداد للذهاب إلى أرض الخصم. ونحن لا نزال في حالة حرب, بل نحن جميعا لا نزال نعاني آثار أربع حروب قاسية خلال ثلاثين عاما, بل إن أسر ضحايا حرب أكتوبر 1973, لا تزال تعيش مآسي الترمل, وفقد الأبناء, واستشهاد الآباء والإخوان.
كما أنني, كما سبق أن أعلت من قبل, لم أتداول هذا القرار مع أحد من زملائي وإخوتي, رؤساء الدول العربية, أو دول المواجهة. ولقد اعترض من اتصل بي منهم, بعد إعلان القرار, لأن حالة الشك الكاملة, وفقدان الثقة الكاملة, بين الدول العربية والشعب الفلسطيني, من جهة, وبين إسرائيل من جهة أخرى, لا تزال قائمة في كل النفوس. ويكفي أن أشهرا طويلة, كان يمكن أن يحل فيها السلام. قد ضاعت سدى, في خلافات ومناقشات لا طائل منها حول إجراءات عقد مؤتمر جنيف, وكلها تعبر عن الشك الكامل وفقدان الثقة الكاملة.
ولكنني أصارحكم القول بكل الصدق, أنني اتخذت هذا القرار بعد تفكير طويل, وأنا أعلم أنه مخاطرة كبيرة, لأنه إذا كان الله قد كتب لي قدري أن أتولى المسؤولية عن شعب مصر, وأن أشارك في مسؤولية المصير, بالنسبة إلى الشعب العربي وشعب فلسطين, فإن أول واجبات هذه المسؤولية, أن استنفد كل السبل, لكي أجنب شعبي المصري العربي, وكل الشعب العربي, ويلات حروب أخرى, محطمة, مدمرة, لا يعلم مداها إلا الله.
وقد اقتنعت بعد تفكير طويل, أن أمانة المسؤولية أمام الله, وأمام الشعب, تفرض علي أن أذهب إلى آخر مكان في العالم, بل أن أحضر إلى بيت المقدس, لأخاطب أعضاء الكنيست, ممثلي شعب إسرائيل, بكل الحقائق التي تعتمل في نفسي, وأترككم, بعد ذلك, لكي تقرروا لأنفسكم. وليفعل الله بنا, بعد ذلك, ما يشاء.
أيها السيدات والسادة
إن في حياة الأمم والشعوب لحظات, يتعين فيها على هؤلاء الذين يتصفون بالحكمة والرؤية الثاقبة, أن ينظروا إلى ما وراء الماضي, بتعقيداته ورواسبه, من أجل انطلاقة جسور نحو آفاق جديدة.
وهؤلاء الذين يتحملون, مثلنا, تلك المسؤولية الملقاة على عاتقنا, هم أول من يجب أن تتوافر لديهم الشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية, التي تتنايب مع جلال الموقف. ويجب أن نرتفع جميعا فوق جميع صور التعصب, وفوق خداع النفس, وفوق نظريات التفوق البالية. ومن المهم ألا ننسى أبدا أن العصمة لله وحده.
وإذا قلت إنني أريد أن أجنب كل الشعب العربي ويلات حروب جديدة مفجعة. فإنني أعلن أمامكم, بكل الصدق, أنني أحمل نفس المشاعر, وأحمل نفس المسؤولية, لكل إنسان في العالم, وبالتأكيد نحو الشعب الإسرائيلي.
ضحية الحرب : الإنسان. إن الروح, التي تزهق في الحرب, هي روح إنسان, سواء كان عربيا أو إسرائيليا. إن الزوجة التي تترمل, هي إنسانة, من حقها أن تعيش في أسرة سعيدة, سواء كانت عربية أو إسرائيلية.
إن الأطفال الأبرياء, الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم, هم أطفالنا جميعا, على أرض العرب, أو في إسرائيل, لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ, والغد الجميل.
من أجل كل هذا, ومن أجل أن نحمي حياة أبنائنا وأخواتنا جميعا, من أجل أن تنتج مجتمعاتنا, وهي آمنة مطمئنة, من أجل تطولا الإنسان وإسعاده وإعطائه حقه في الحياة الكريمة, من أجل مسؤوليتنا أمام الأجيال المقبلة, من أجل بسمة كل طفل يولد على أرضنا. من أجل كل هذا, اتخذت قراري أن أحضر إليكم, رغم كل المحاذير, لكي أقول كلمتي.
ولقد تحملت وأتحمل متطلبات المسؤولية التاريخية. ومن أجل ذلك, أعلنت من قبل, ومنذ أعوام, وبالتحديد في 4 فبراير 1971, أنني مستعد لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل. وكان هذا أول إعلان يصدر عن مسؤول عربي, منذ أن بدأ الصراع العربي - الإسرائيلي. وبكل هذه الدوافع, التي تفرضها مسؤولية القيادة, أعلنت في السادس عشر من أكتوبر 1973, وأمام مجلس الشعب المصري, الدعوة إلى مؤتمر دولي, يتقرر فيه السلام العادل الدائم.
ولم أكن, في ذلك الوقت, في وضع من يستجدي السلام أو يطلب وقف النار. وبهذه الدوافع كلها, التي يلزم بها الواجب التاريخي والقيادي, وقعنا اتفاق فك الاشتباك الأول, ثم اتفاق فك الاشتباك الثاني في سيناء. ثم سعينا نطرق الأبواب, المفتوحة والمغلقة, لإيجاد طريق معين نحو سلام دائم, عادل. وفتحنا قلوبنا لشعوب العالم كله, لكي نتفهم دوافعنا وأهدافنا, ولمي نقنتع فعلا أننا دعاة عدل وصناع سلام.
وبهذه الدوافع كلها, قررت أن أحضر إليكم, بعقل مفتوح وقلب مفتوح وإرادة واعية, لكي نقيم السلام الدائم, القائم على عدل.
وشاعت المقادير أن تجيئ رحلتي إليكم, رحلة السلام, في يوم العيد الإسلامي الكبير, عيد الأضحى المبارك, عيد التضحية والفداء, حين أسلم إبراهيم - عليه السلام, جد العرب واليهود. أقول حين أمره الله, وتوجه إليه بكل جوارحه, لا عن ضعف, بل عن قوة روحية هائلة, وعن اختيار حرّ للتضحية بفلذة كبيرة, بدافع من إيمانه الراسخ, الذي لا يتزعزع, بمثل عليا تعطي الحياة مغزى عميقا. ولعل هذه المصادفة, تحمل معنى جديدا في نفوسنا جميعا, لعله يصبح أملا حقيقيا في تباشير الأمن والأمان والسلام.
أيها السيدات والسادة
دعونا نتصارح, بالكلمة المستقيمة, والفكرة الواضحة, التي لا تحمل أي التواء. دعونا نتصارح اليوم, والعالم كله, بغربه وشرقه, يتابع هذه اللحظات الفريدة, التي يمكن أن تكون نقطة تحول جذري في مسار التاريخ في هذه المنطقة من العالم, إن لم يكن في العالم كله.
دعونا نتصارح, ونحن نجيب عن السؤال الكبير : كيف يمكن أن نحقق السلام الدائم, العادل؟
لقد جئت إليكم أحمل جوابي الواضح الصريح عن هذا السؤال الكبير, لكي يسمعه الشعب في إسرائيل, ولكي يسمعه العالم أجمع, ولكي يسمعه أيضا كل أولئك, الذين
تصل أصوات دعواتهم المخلصة إلى أذني, أملا في أن تتحقق, في النهاية, النتائج التي يرجوها الملايين من هذا الاجتماع التاريخي.
وقبل أن أعلن جوابي, أرجو أن أؤكد لكم, أنني أعتمد, في هذا الجواب الواضح الصريح, على حقائق عدة, لا مهرب لأحد من الاعتراف بها:
الحقيقة الأولى, إنه لا سعادة لأحد على حساب شقاء الآخرين.
الحقيقة الثانية, إنني لم أتحدث ولن أتحدث بلغتين, ولم أتعامل ولن أتعامل بسياستين.
ولست أتعامل مع أحد, إلا بلغة واحدة, وسياسة واحدة, ووجه واحد.
الحقيقة الثالثة, إن المواجهة المباشرة والخط المستقيم, هما أقرب الطرق وأنجحها
للوصول إلى الهدف الواضح.
الحقيقة الرابعة, إن دعوة السلام الدائم, العادل, المبني على احترام قرارات الأمم
المتحدة, أصبحت اليوم دعوة العالم كله, وأصبحت تعبيرا واضحا
عن إرادة المجتمع الدولي, سواء في العواصم الرسمية, التي تصنع
السياسة وتتخذ القرار, أو على مستوى الرأي العام العالمي الشعبي,
ذلك الرأي العام الذي يؤثر في صنع السياسة واتخاذ القرار.
الحقيقة الخامسة, ولعلها أبرز الحقائق وأوضحها, إن الأمة العربية لا تتحرك في
سعيها من أجل السلام الدائم, العادل, من موقع ضعف أو اهتزاز,
بل إنها على العكس تماما, تملك من مقومات القوة والاستقرار ما
يجعل كلمتها نابعة من إرادة صادقة نحو السلام. صادرة عن إدراك
حضاري أنه لكي تتجنب كارثة محققة, علينا وعليكم وعلى العالم
كله, فإنه لا بديل من إقرار سلام دائم, وعادل, لا تزعزعه الأنواء,
ولا تعبث به الشكوك, ولا يهزه سوء المقاصد أو التواء النوايا.
من واقع هذه الحقائق, التي أردت أن أضعكم في صورتها كما أراها, أرجو أيضا أن أحذركم, لكل الصدق, أحذركم من بعض الخواطر, التي يمكن أن تطرأ على أذهانكم.
إن واجب المصارحة يقتضي أن أقول لكم ما يلي :
أولا: إنني لم أجئ إليكم لكي أعقد اتفاقا منفردا بين مصر وإسرائيل. ليس هذا واردا
في سياسة مصر. فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل. وأي سلام منفرد بين
مصر وإسرائيل, أو بين أية دولة من دول المواجهة وإسرائيل, فإنه لن يقيم
السلام الدائم, العادل, في المنطقة كلها. بل أكثر من ذلك, فإنه حتى لو تحقق
السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل, بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية,
فإن ذلك لن يحقق أبدا السلام الدائم, العادل, الذي يلح العالم كله اليوم عليه.
ثانيا: إنني لم أجئ إليكم لكي أسعى إلى سلام جزئي, بمعنى أن ننهي حالة الحرب
في هذه المرحلة, ثم نرجئ المشكلة برمتها إلى مرحلة تالية. فليس هذا هو
الحل الجذري, الذي يصل بنا إلى السلام الدائم.
ويرتبط بهذا, أنني لم أجئ إليكم لكي نتفق على فض اشتباك ثالث في سيناء, أو في سيناء والجولان والضفة الغربية. فإن هذا يعني أننا نؤجل فقط اشتعال الفتيل إلى أي وقت مقبل, بل هو يعني, أننا نفتقد شجاعة مواجهة السلام, وأننا أضعف من أن نتحمل أعباء ومسؤوليات السلام الدائم, العادل.
لقد جئت إليكم لكي نبني معا السلام الدائم, العادل, حتى لا تراق نقطة دم واحدة من جسد عربي أو إسرائيلي.
ومن أجل هذا, أعلنت أنني مستعد لأن أذهب إلى آخر العالم.
وهنا نعود إلى الإجابة عن السؤال الكبير: كيف نحقق السلام الدائم, العادل؟
في رأيي, وأعلنها من هذا المنبر للعالم كله, أن الإجابة ليست مستحيلة, ولا خي بالعسيرة, على الرغم من مرور أعوام طويلة من ثأر الدم, والأحقاد الكراهية, وتنشئة أجيال على القطيعة الكاملة, والعداء المستحكم. الإجابة ليست عسيرة, ولا هي مستحيلة, إذا طرقنا سبيل الخط المستقيم بكل الصدق والأمانة.
أنتم تريدون العيش معنا في هذه المنطقة من العالم. وأنا أقول لكم, لكل الإخلاص, إننا نرحب بكم بيننا, بكل الأمن والأمان.
إن هذا في حد ذاته, يشكل نقطة تحول هائلة من علامات تحول تاريخي حاسم.
لقد كنا نرفضكم, وكانت لنا أسبابنا ودعوانا.. نعم.
لقد كنا نرفض الاجتماع بكم, في أي مكان.. نعم.
لقد كنا نصفكم بإسرائيل المزعومة.. نعم.
لقد كانت تجمعنا المؤتمرات أو المنظمات الدولية, وكان ممثلونا, ولا يزالزن, لا يتبادلون التحية والسلام.. نعم.
حدث هذا, ولا يزال يحدث.
لقد كنا نشترط لأي مباحثات وسيطا, يلتقي كل طرف على انفراد.. نعم.
هكذا تمت مباحثات فض الاشتباك الأول. وهكذا أيضا تمت مباحثات فض الاشتباك الثاني.
كما أن ممثيلينا التقوا في مؤتمر جنيف الأول, دون تبادل كلمة مباشرة.. نعم. هذا حدث.
ولكنني أقول لكم اليوم, وأعلن للعالم كله, إننا نقبل بالعيش معكم في سلام دائم وعادل. ولا نريد أن نحيطكم أو أن تحيطونا بالصواريخ المستعدة للتدمير, أو بقذائف الأحقاد والكراهية.
ولقد أعلنت أكثر من مرة, أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة, اعترف بها العالم, وحملت القوتان العظميان مسؤولية أمنها وحماية وجودها. ولما كنا نريد السلام, فعلا وحقا, فإننا نرحب بأن تعيشوا بيننا, في أمن وسلام, فعلا وحقا.
لقد كان بيننا وبينكم جدار ضخم مرتفع, حاولتم أن تبنوه على مدى ربع قرن من الزمان. ولكنه تحطم في عام 1973.
كان جدارا من الحرب النفسية, المستمرة في التهابها وتصاعدها.
كان جدارا من التخويف بالقوة, القادرة على اكتساح الأمة العربية, من أقصاها إلى أقصاها.
كان جدارا من الترويج, أننا أمة تحولت إلى جثة بلا حراك, بل إن منكم من قال إنه حتى بعد مضي خمسين عاما مقبلة, فلن تقوم للعرب قائمة من جديد.
كان جدارا يهدد دائما بالذراع الطويلة, القادرة على الوصول إلى أي موقع وإلى أي بعد.
كان جدارا يحذرنا من الإبادة والفناء, إذا نحن حاولنا أن تستخدم حقنا المشروع في تحرير أرضنا المحتلة.
وعلينا أن نعترف معا بأن هذا الجدار, قد وقع وتحطم في عام 1973, ولكن, بقي جدار آخر. هذا الجدار الآخر, يشكل حاجزا نفسيا معقدا بيننا وبينكم. حاجزا من الشكوك, حاجزا من النفور, حاجزا من خشية الخداع, حاجزا من الأوهام حول أي تصرف أو فعل أو قرار, حاجزا من التفسير الخاطئ لكل حدث أو حديث.
وهذا الحاجز النفسي, هو الذي عبرت عنه في تصريحات رسمية, بأنه يشكل سبعين في المائة من المشكلة.
وإنني أسألكم اليوم, بزيارتي لكم, لماذا لا نمد أيادينا, بصدق وإيمان وإخلاص, لكي نحطم هذا الحاجز معا؟
لماذا لا تتفق إراداتنا, بصدق وإيمان وإخلاص, لكي نزيل معا كل شكوك الخوف والعذر والتواء المقاصد وإخفاء حقائق النوايا؟
لماذا لا تنصدى معا, بشجاعة الرجال, وبحسارة الأبطال, الذين يهبون حياتهم لهدف أسمى؟
لماذا لا نتصدى معا, بهذه الشجاعة والجسارة, لكي نقيم صرحا شامخا للسلام, يحمي ولا يهدد, يشع لأجيالنا القادمة أضواء الرسالة الإنسانية نحو البناء والتطور ورفعة الإنسان؟
لماذا نورث هذه الأجيال نتائج سفك الدماء, وإزهاق الأرواح, وتيتيم الأطفال, وترمل الزوجات, وهدم الأسر, وأنين الضحايا؟
لماذا لا نؤمن بحكمة الخالق, التي أوردها في أمثال سليمان الحكيم:
" الغش في قلب الذين يفكرون في الشر. أما المبشرون بالسلام, فلهم فرح ".
" لقمة يابسة, ومعها سلامة, خير من بيت مليء بالذبائح, مع الخصام ".
لماذا لا نردد معا من مزامير داوود النبي :
"إليك, يا رب, أصرخ. اسمع صوت تضرعي, إذا استغثت بك. وأرفع يدي إلى محراب قدسك, لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الإثم, المخاطبين أصحابهم بالسلام, والشر في قلوبهم. أعطهم حسب فعلهم, وحسب شر أعمالهم. أطلب السلامة وأسعى وراءها".
أيها السادة
الحق أقول لكم, إن السلام لن يكون اسما على مسمى, ما لم يكن قائما على العدالة, وليس على احتلال أرض الغير. ولا يسوغ أن تطلبوا لأنفسكم ما تنكرونه على غيركم.
وبكل صراحة, وبالروح التي حدت بي على القدوم إليكم اليوم, فإني أقول لكم, إن عليكم أن تتخلوا, نهائيا, عن أحلام الغزو, وأن تتخلوا, أيضا, عن الاعتقاد بأن القوة هي خير وسيلة للتعامل مع العرب.
إن عليكم أن تستوعبوا جيدا دروس المواجهة بيننا وبينكم, فلن يجيدكم التوسع شيئا.
ولكي نتكلم بوضوح, فإن أرضنا لا تقبل المساومة, وليست عرضة للجدل. إن التراب الوطني والقومي, يعتبر لدينا في منزلة الوادي المقدس طوى, الذي كلم فيه الله موسى - عليه السلام. ولا يملك أي منا, ولا يقبل أن يتنازل عن شبر واحد منه, أو أن يقبل مبدأ الجدل والمساومة عليه.
والحق أقول لكم أيضا, إن أمامنا, اليوم, الفرصة السانحة للسلام, وهي فرصة لا يمكن أن يجود بمثلها الزمان, إذا كنا جادين حقا في النضال من أجل السلام.
وهي فرصة, لو أضعناها, أو بددناها, فلسوف تحل بالمتآمر عليها لعنة الإنسانية, ولعنة التاريخ.
ما هو السلام بالنسبة إلى إسرائيل؟
· أن تعيش في المنطقة, مع جيرانها العرب, في أمن واطمئنان. هذا منطق أقول له نعم.
· أن تعيش إسرائيل في حدودها آمنة من أي عدوان. هذا منطق أقول له نعم.
· أن تحصل إسرائيل على كل أنواع الضمانات, التي تؤمن لها هاتين الحقيقتين. هذا مطلب أقول له نعم.
· بل إننا نعلن أننا نقبل كل الضمانات الدولية, التي تتصورونها, وممن ترضونه أنتم.
· نعلن أننا نقبل كل الضمانات, التي تريدونها من القوتين العظميين, أو من إحداهما, أو من الخمسة الكبار, أو من بعضهم.
· وأعود فأعلن, بكل الوضوح, أننا قابلون بأي ضمانات ترتضونها, لأننا في المقابل, سنأخذ نفس الضمانات.
خلاصة القول, إذا, عندما نسأل : ما هو السلام بالنسبة إلى إسرائيل؟
يكون الرد هو أن تعيش إسرائيل في حدودها مع جيرانها العرب في أمن وأمان, وفي إطار كل ما ترتضيه من ضمانات, يحصل عليها الطرف الآخر.
ولكن كيف يتحقق هذا؟ كيف يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة, لكي نصل بها إلى السلام الدائم, العادل؟
هناك حقائق لا بد من مواجهتها, بكل شجاعة ووضوح.
·
هناك أرض عربية احتلتها, ولا تزال تحتلها, إسرائيل بالقوة المسلحة, ونحن نصر على تحقيق الانسحاب الكامل منها, بما فيها القدس العربية.
القدس التي حضرت إليها باعتبارها مدينة السلام, والتي كانت, وسوف تظل على الدوام, التجسيد الحي للتعايش بين المؤمنين بالديانات الثلاث.
·
وليس من المقبول أن يفكر أحد في الوضع الخاص لمدينة القدس, في إطار الضم أو التوسع. وإنما يجب أن تكون مدينة حرة, مفتوحة لجميع المؤمنين.
·
وأهم من كل هذا, فإن تلك المدينة, يجب ألا تفصل عن هؤلاء الذين اختاروها مقرا ومقاما لعدة قرون.
·
وبدلا من إيقاذ أحقاد الحروب الصليبية, فإننا يجب أن نحيي روح عمر بن الخطاب وصلاح الدين, أي روح التسامح واحترام الحقوق.
·
إن دور العبادة, الإسلامية والمسيحية, ليست مجرد أماكن لأداء الفرائض والشعائر, بل إنها تقوم شاهد صدق على وجودنا, الذي لم ينقطع في هذا المكان, سياسيا وروحيا وفكريا.
· وهنا, فإنه يجب ألا يخطئ أحد تقدير الأهمية والإجلال اللذين نكنهما للقدس, نحن معشر المسيحيين والمسلمين.
ودعوني أقل لكم, بلا أدنى تردد, إنني لم أجىء إليكم تحت هذه القبة, لكي أتقدم برجاء أن تجلوا قواتكم من الأرض المحتلة. إن الانسحاب الكامل من الأرض المحتلة بعد 1967, أمر بديهي, لا نقبل فيه الجدل, ولا رجاء فيه لأحد أو من أحد.
ولا معنى لأي حديث عن السلام الدائم, العادل, ولا معنى لأي خطوة لضمان حياتنا معا في هذه المنطقة من العالم, في أمن وأمان, وأنتم تحتلون أرضا عربية بالقوة المسلحة. فليس هناك سلام يستقيم أو يبنى, مع احتلال أرض الغير.
نعم, هذه بديهية, لا نقبل الجدل والنقاش, إذا خلصت النوايا وصدق النضال, لإقرار السلام الدائم, العادل, لجيلنا ولكل الأجيال من بعدنا.
· أما بالنسبة للقصية الفلسطينية, فليس هناك من ينكر أنها جوهر المشكلة كلها, وليس هناك كم يقبل, اليوم, في العالم كله, شعارات رفعت هنا في إسرائيل, تتجاهل وجود شعب فلسطين, بل تتساءل أين هو هذا الشعب؟
· إن قضية شعب فلسطين, وحقوق شعب فلسطين المشروعة, لم تعد, اليوم, موضوع تجاهل أو إنكار من أحد. بل لا يحتمل عقل يفكر أن تكون موضع تجاهل أو إنكار.
· إنها واقع استقبله المجتمع الدولي, غربا وشرقا, بالتأييد والمساندة والاعتراف, في مواثيق دولية وبيانات رسمية, لن يجدي أحدا أن يصم أذنيه عن دويها المسموع, ليل نهار, أو أن يغمض عينيه عن حقيقتها التاريخية, حتى الولايات المتحدة الأمريكية, حليفكم الأول, التي تحمل قمة الالتزام لحماية وجود إسرائيل وأمنها, والتي قدمت, وتقدم إلى إسرائيل كل عون معنوي ومادي وعسكري. أقول حتى الولايات المتحدة اختارت أن تواجه الحقيقة والواقع, وأن تعترف بأن للشعب الفلسطيني حقوقا مشروعة, وأن المشكلة الفلسطينية هي قلب الصراع وجوهره, وطالما بقيت معلقة دون حل, فإن النزاع سوف يتزايد ويتصاعد, ليبلغ أبعادا جديدة. وبكل الصدق, أقول لكم إن السلام لا يمكن أن يتحقق بغير الفلسطينيين, وإنه لخطأ جسيم, لا يعلم مداه أحد, أن نغمض الطرف عن تلك القضية, أو ننحيها جانبا.
· ولن أستطرد في سرد أحداث الماضي, منذ صدر وعد بلفور لستين عاما خلت, فأنتم على بينة من الحقائق جيدا.
· وإذا كنتم قد وجدتم المبرر, القانوني والأخلاقي, لإقامة وطن قومي على أرض, لم تكن كلها ملكا لكم, فأولى بكم أن تتفهموا إصرار شعب فلسطين على إقامة دولته من جديد في وطنه.
· وحين يطالب بعض الغلاة المتطرفين أن يتخلى الفلسطينيون عن هذا الهدف الأسمى, فإن معناه, في الواقع وحقيقة الأمر, مطالبة لهم بالتخلي عن هويتهم, وعن كل أمل لهم في المستقبل.
· إنني أحيي أصواتا إسرائيلية, طالبت بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني, وصولا إلى السلام, وضمنا له. ولذلك, فإنني أقول, أيها السيدات والسادة, إنه لا طائل من وراء عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه في إقامة دولته وفي العودة. لقد مررنا, نحن العرب, بهذه التجربة من قبل, معكم, ومع حقيقة الوجود الإسرائيلي, وانتقل بنا الصراع من حرب إلى حرب, ومن ضحايا إلى مزيد من الضحايا, حتى وصلنا, اليوم, نحن وأنتم, إلى حافة هاوية رهيبة وكارثة مروعة, إذا نحن لم نغتنم اليوم معا فرصة السلام الدائم والعادل.
· عليكم أن تواجهوا الواقع مواجهة شجاعة, كما واجهته أنا.
· ولا حل لمشكلة أبدا بالهروب منها, أو بالتعالي عليها.
· ولا يمكن أن يستقر سلام بمحاولة فرض أوضاع وهمية, أدار لها العالم كله ظهره, وأعلن نداءه الإجماعي بوجوب احترام الحق والحقيقة.
· ولا داعي للدخول في الحلقة المفرغة مع الحق الفلسطيني.
· ولا جدوى من خلق العقبات, إلا أن تتأخر مسيرة السلام, أو أن يقتل السلام.
وكما قلت لكم, فلا سعادة لأحد على حساب شقاء الآخرين. كما أن المواجهة المباشرة والخط المستقيم, هما أقرب الطرق وأنجحها للوصول إلى الهدف الواضح. والمواجهة المباشرة للمشكلة الفلسطينية, واللغة الواحدة لعلاجها نحو سلام دائم, عادل, هو في أن تقوم دولته.
ومع كل الضمانات الدولية, التي تطلبونها, فلا يجوز أن يكون هناك خوف من دولة وليدة, تحتاج إلى معونة كل دول العالم لقيامها. وعندما تدق أجراس السلام, فلن توجد يد لتدق طبول الحرب, وإذا وجدت, فلن يسمع لها صوتٌ.
وتصوروا معي اتفاق سلام في جنيف, نزفه إلى العالم المتعطش إلى السلام. إتفاق سلام يقومً على :
أولا: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية, التي أحتلت في عام 1967.
ثانياً: تحقيق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني, وحقه في تقرير المصير, بما
في ذلك حقه في إقامة دولته.
ثالثا: حق كل دول المنطقة في العيش في سلام داخل حدودها الآمنة,
والمضمونة عن طريق إجراءات يتفق عليها, تحقق الأمن المناسب
للحدود الدولية, بالإضافة إلى الضمانات الدولية المناسبة.
رابعا: تلتزم كل دول المنطقة بإدارة العلاقات فيما بينها, طبقا لأهداف ومبادئ
ميثاق الأمم المتحدة, وبصفة خاصة عدم الالتجاء إلى القوة, وحل
الخلافات بينها بالوسائل السلمية.
خامسا: إنهاء حالة الحرب القائمة في المنطقة.
أيها السيدات والسادة
إن السلام ليس توقيعا على سطور مكتوبة, بل إنه كتابة جديدة للتاريخ, إن السلام ليس مباراة في المناداة به, للدفاع عن أية شهوات أو لستر أية أطماع, فالسلام, في جوهره, نضال جبار ضد كل الأطماع والشهوات. ولعل تجارب التاريخ, القديم والحديث, تعلمنا جميعا أن الصواريخ والبوارج والأسلحة النووية, لا يمكن أن تقيم الأمن, ولكنها على العكس تحطم كل ما يبنيه الأمن.
وعلينا, من أجل شعوبنا, من أجل حضارة صنعها الإنسان, أن نحمي الإنسان في كل مكان, من سلطان قوة السلاح.
علينا أن نعلي سلطان الإنسانية بكل قوة القيم والمبادئ, التي تعلي مكانة الإنسان.
وإذا سمحتم لي أن أتوجه بندائي من هذا المنبر إلى شعب إسرائيل, فإنني أتوجه بالكلمة الصادقة الخالصة, إلى كل رجل وامرأة وطفل في إسرائيل,
· إنني أحمل إليكم من شعب مصر, الذي يبارك هذه الرسالة المقدسة من أجل السلام, أحمل إليكم رسالة السلام, رسالة شعب مصر, الذي لا يعرف التعصب, والذي يعيش أنباؤه, من مسلمين ومسيحيين ويهود, بروح المودة والحب والتسامح. هذه هي مصر, التي حملني شعبها أمانة الرسالة المقدسة, رسالة الأمن والأمان والسلام.
· فيا كل رجل وامرأة وطفل في إسرائيل: شجعوا قيادتكم على نضال السلام, ولتتجه الجهود إلى بناء صرح شامخ للسلام, بدلا من بناء القلاع والمخابئ المحصنة بصواريخ الدمار. قدموا للعالم صورة الإنسان الجديد في هذه المنطقة من العالم, لكي يكون قدوة الإنسان العصر, إنسان السلام في كل موقع ومكان.
· بشروا أبناءكم, أن ما مضى هو آخر الحروب ونهاية الآلام, وأن ما هو قادم هو البداية الجديدة, للحياة الجديدة, حياة الحب والخير والحرية والسلام.
· ويا أيتها الأم الثكلى,
· ويا أيتها الزوجة المترملة,
· ويا أيها الابن الذي فقد الأخ والأب,
· يا كل ضحايا الحروب,
- إملأوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام.
- إملأوا الصدور والقلوب بآمال السلام.
- إجعلوا الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر.
- إجعلوا الأمل دستور عمل ونضال.
وإرادة الشعوب هو من إرادة الله.
أيها السيدات والسادة
قبل أن أصل إلى هذا المكان, توجهت بكل نبضة في قلبي, وبكل خلجة في ضميري, إلى الله - سبحانه وتعالى - وأنا أؤدي صلاة العيد في المسجد الأقصى, وأنا أزور كنيسة القيامة, توجهت إلى الل - سبحانه وتعالى - بالدعاء أن يلهمني القوة, وأن يؤكد يقين إيماني بأن تحقق هذه الزيارة أهدافها, التي أرجوها, من أجل حاضر سعيد, ومستقبل أكثر سعادة.
لقد اخترت أن أخرج على كل السوابق والتقاليد, التي عرفتها الدول المتحاربة, ورغم أن احتلال الأرض العربية ما زال قائما, بل كان إعلاني عن استعدادي للحضور إلى إسرائيل مفاجأة كبرى, هزت كثيرا من المشاعر, وأذهلت كثيرا من العقول, بل شككت في نواياها بعض الآراء, برغم كل ذلك, فإنني استلهمت القرار بكل صفاء الإيمان وطهارته, وبكل التعبير الصادق عن إرادة شعبي ونواياه, واخترت هذا الطريق الصعب, بل إنه في نظر الكثيرين أصعب طريق.
إخترت أن أحضر إليكم, بالقلب المفتوح والفكر المفتوح.
إخترت أن أعطي هذه الدفعة لكل الجهود العالمية المبذولة من أجل السلام.
إخترت أن أقدم لكم, وفي بيتكم, الحقائق المجردة عن الأغراض والأهواء.
لا لكي أناور, ولا لكي أكسب دولة, ولكن لكي نكسب معا أخطر الجولات والمعارك في التاريخ المعاصر, معركة السلام العادل والدائم.
إنها ليست معركتي فقط, ولا هي معركة القيادات فقط في إسرائيل, ولكنها معركة كل مواطن على أرضنا جميعا, من حقه أن يعيش في سلام. إنها التزام الضمير والمسؤولية في قلوب الملايين.
وقد تساءل الكثيرون, عندما طرحت هذه المبادرة, عن تصوري لما يمكن إنجازه في هذه الزيارة, وتوقعاتي منها. وكما أجبت السائلين, فإنني أعلن أمامكم أنني لم أفكر في القيام بهذه المبادرة من منطلق ما يمكن تحقيقه أثناء الزيارة, وإنما جئت هنا لكي رسالة.
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
اللهم إنني أردد مع زكريا قوله: " أحبوا الحق والسلام" .
وأستلهم آيات الله - العزيز الحكيم - حين قال : " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " صدق الله العظيم. والسلام عليكم.
![]() |
الرئيس المصري محمد أنور السادات في الكنيست |
السيد الرئيس
أيها السيدات والسادة
إسمحوا لي أولا أن أتوجه إلى السيد رئيس الكنيست بالشكر الخاص, لإتاحته هذه الفرصة, لكي أتحدث إليكم. وحين أبدأ حديثي أقول :
السلام عليكم ورحمة الله, والسلام لنا جميعا, بإذن الله.
السلام لنا جميعا, على الأرض العربية وفي إسرائيل, وفي كل مكان من أرض هذا العالم الكبير, المعقد بصراعاته الدامية, المضطرب بتناقضاته الحادة, المهدد بين الحين والحين بالحروب المدمرة, تلك التي يصنعها الإنسان, ليقضي بها على أخيه الإنسان. وفي النهاية, وبين أنقاض ما بنى الإنسان, وبين أشلاء الضحايا من بني الإنسان, فلا غالب ولا مغلوب, بل إن المغلوب الحقيقي دائما هو الإنسان, أرقى ما خلقه الله. الإنسان الذي خلقه الله, كما يقول غاندي, قديس السلام, "لكي يسعى على قدميه, يبني الحياة, ويعبد الله".
وقد جئت إليكم اليوم على قدمين ثابتتين, لكي نبني حياة جديدة, لكي نقيم السلام. وكلنا على هذه الأرض, أرض الله, كلنا, مسلمين ومسيحيين ويهود, نعبد الله, ولا نشرك به أحدا. وتعاليم الله ووصاياه, هي حب وصدق وطهارة وسلام.
وإنني ألتمس العذر لكل من استقبل قراري, عندما أعلنته للعالم كله أمام مجلس الشعب المصري, بالدهشة, بل الذهول. بل إن البعض, قد صورت له المفاجأة العنيفة, أن قراري ليس أكثر من مناورة كلامية للاستهلاك أمام الرأي العام العالمي, بل وصفه بعض آخر بأنه تكتيك سياسي, لكي أخفي به نواياي في شن حرب جديدة.
ولا أخفي عليكم أن أحد مساعدي في مكتب رئيس الجمهورية, اتصل بي في ساعة متأخرة من الليل, بعد عودتي إلى بيتي من مجلس الشعب, ليسألني, في قلق : وماذا تفعل, يا سيادة الرئيس, لو وجهت إليك إسرائيل الدعوة فعلا؟ فأجبته, بكل هدوء : سأقبلها على الفور.
لقد أعلنت أنني سأذهب إلى آخر العالم. سأذهب إلى إسرائيل, لأنني أريد أن أطرح الحقائق كاملة أمام شعب إسرائيل.
إنني ألتمس العذر لكل من أذهله القرار, أو تشكك في سلامة النوايا وراء إعلان القرار. فلم يكن أحد يتصور أن رئيس أكبر دولة عربية, تتحمل العبء الأكبر والمسؤولية الأولى في قضية الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط, يمكن أن يعرض قراره بلاستعداد للذهاب إلى أرض الخصم. ونحن لا نزال في حالة حرب, بل نحن جميعا لا نزال نعاني آثار أربع حروب قاسية خلال ثلاثين عاما, بل إن أسر ضحايا حرب أكتوبر 1973, لا تزال تعيش مآسي الترمل, وفقد الأبناء, واستشهاد الآباء والإخوان.
كما أنني, كما سبق أن أعلت من قبل, لم أتداول هذا القرار مع أحد من زملائي وإخوتي, رؤساء الدول العربية, أو دول المواجهة. ولقد اعترض من اتصل بي منهم, بعد إعلان القرار, لأن حالة الشك الكاملة, وفقدان الثقة الكاملة, بين الدول العربية والشعب الفلسطيني, من جهة, وبين إسرائيل من جهة أخرى, لا تزال قائمة في كل النفوس. ويكفي أن أشهرا طويلة, كان يمكن أن يحل فيها السلام. قد ضاعت سدى, في خلافات ومناقشات لا طائل منها حول إجراءات عقد مؤتمر جنيف, وكلها تعبر عن الشك الكامل وفقدان الثقة الكاملة.
ولكنني أصارحكم القول بكل الصدق, أنني اتخذت هذا القرار بعد تفكير طويل, وأنا أعلم أنه مخاطرة كبيرة, لأنه إذا كان الله قد كتب لي قدري أن أتولى المسؤولية عن شعب مصر, وأن أشارك في مسؤولية المصير, بالنسبة إلى الشعب العربي وشعب فلسطين, فإن أول واجبات هذه المسؤولية, أن استنفد كل السبل, لكي أجنب شعبي المصري العربي, وكل الشعب العربي, ويلات حروب أخرى, محطمة, مدمرة, لا يعلم مداها إلا الله.
وقد اقتنعت بعد تفكير طويل, أن أمانة المسؤولية أمام الله, وأمام الشعب, تفرض علي أن أذهب إلى آخر مكان في العالم, بل أن أحضر إلى بيت المقدس, لأخاطب أعضاء الكنيست, ممثلي شعب إسرائيل, بكل الحقائق التي تعتمل في نفسي, وأترككم, بعد ذلك, لكي تقرروا لأنفسكم. وليفعل الله بنا, بعد ذلك, ما يشاء.
أيها السيدات والسادة
إن في حياة الأمم والشعوب لحظات, يتعين فيها على هؤلاء الذين يتصفون بالحكمة والرؤية الثاقبة, أن ينظروا إلى ما وراء الماضي, بتعقيداته ورواسبه, من أجل انطلاقة جسور نحو آفاق جديدة.
وهؤلاء الذين يتحملون, مثلنا, تلك المسؤولية الملقاة على عاتقنا, هم أول من يجب أن تتوافر لديهم الشجاعة لاتخاذ القرارات المصيرية, التي تتنايب مع جلال الموقف. ويجب أن نرتفع جميعا فوق جميع صور التعصب, وفوق خداع النفس, وفوق نظريات التفوق البالية. ومن المهم ألا ننسى أبدا أن العصمة لله وحده.
وإذا قلت إنني أريد أن أجنب كل الشعب العربي ويلات حروب جديدة مفجعة. فإنني أعلن أمامكم, بكل الصدق, أنني أحمل نفس المشاعر, وأحمل نفس المسؤولية, لكل إنسان في العالم, وبالتأكيد نحو الشعب الإسرائيلي.
ضحية الحرب : الإنسان. إن الروح, التي تزهق في الحرب, هي روح إنسان, سواء كان عربيا أو إسرائيليا. إن الزوجة التي تترمل, هي إنسانة, من حقها أن تعيش في أسرة سعيدة, سواء كانت عربية أو إسرائيلية.
إن الأطفال الأبرياء, الذين يفقدون رعاية الآباء وعطفهم, هم أطفالنا جميعا, على أرض العرب, أو في إسرائيل, لهم علينا المسؤولية الكبرى في أن نوفر لهم الحاضر الهانئ, والغد الجميل.
من أجل كل هذا, ومن أجل أن نحمي حياة أبنائنا وأخواتنا جميعا, من أجل أن تنتج مجتمعاتنا, وهي آمنة مطمئنة, من أجل تطولا الإنسان وإسعاده وإعطائه حقه في الحياة الكريمة, من أجل مسؤوليتنا أمام الأجيال المقبلة, من أجل بسمة كل طفل يولد على أرضنا. من أجل كل هذا, اتخذت قراري أن أحضر إليكم, رغم كل المحاذير, لكي أقول كلمتي.
ولقد تحملت وأتحمل متطلبات المسؤولية التاريخية. ومن أجل ذلك, أعلنت من قبل, ومنذ أعوام, وبالتحديد في 4 فبراير 1971, أنني مستعد لتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل. وكان هذا أول إعلان يصدر عن مسؤول عربي, منذ أن بدأ الصراع العربي - الإسرائيلي. وبكل هذه الدوافع, التي تفرضها مسؤولية القيادة, أعلنت في السادس عشر من أكتوبر 1973, وأمام مجلس الشعب المصري, الدعوة إلى مؤتمر دولي, يتقرر فيه السلام العادل الدائم.
ولم أكن, في ذلك الوقت, في وضع من يستجدي السلام أو يطلب وقف النار. وبهذه الدوافع كلها, التي يلزم بها الواجب التاريخي والقيادي, وقعنا اتفاق فك الاشتباك الأول, ثم اتفاق فك الاشتباك الثاني في سيناء. ثم سعينا نطرق الأبواب, المفتوحة والمغلقة, لإيجاد طريق معين نحو سلام دائم, عادل. وفتحنا قلوبنا لشعوب العالم كله, لكي نتفهم دوافعنا وأهدافنا, ولمي نقنتع فعلا أننا دعاة عدل وصناع سلام.
وبهذه الدوافع كلها, قررت أن أحضر إليكم, بعقل مفتوح وقلب مفتوح وإرادة واعية, لكي نقيم السلام الدائم, القائم على عدل.
وشاعت المقادير أن تجيئ رحلتي إليكم, رحلة السلام, في يوم العيد الإسلامي الكبير, عيد الأضحى المبارك, عيد التضحية والفداء, حين أسلم إبراهيم - عليه السلام, جد العرب واليهود. أقول حين أمره الله, وتوجه إليه بكل جوارحه, لا عن ضعف, بل عن قوة روحية هائلة, وعن اختيار حرّ للتضحية بفلذة كبيرة, بدافع من إيمانه الراسخ, الذي لا يتزعزع, بمثل عليا تعطي الحياة مغزى عميقا. ولعل هذه المصادفة, تحمل معنى جديدا في نفوسنا جميعا, لعله يصبح أملا حقيقيا في تباشير الأمن والأمان والسلام.
أيها السيدات والسادة
دعونا نتصارح, بالكلمة المستقيمة, والفكرة الواضحة, التي لا تحمل أي التواء. دعونا نتصارح اليوم, والعالم كله, بغربه وشرقه, يتابع هذه اللحظات الفريدة, التي يمكن أن تكون نقطة تحول جذري في مسار التاريخ في هذه المنطقة من العالم, إن لم يكن في العالم كله.
دعونا نتصارح, ونحن نجيب عن السؤال الكبير : كيف يمكن أن نحقق السلام الدائم, العادل؟
لقد جئت إليكم أحمل جوابي الواضح الصريح عن هذا السؤال الكبير, لكي يسمعه الشعب في إسرائيل, ولكي يسمعه العالم أجمع, ولكي يسمعه أيضا كل أولئك, الذين
تصل أصوات دعواتهم المخلصة إلى أذني, أملا في أن تتحقق, في النهاية, النتائج التي يرجوها الملايين من هذا الاجتماع التاريخي.
وقبل أن أعلن جوابي, أرجو أن أؤكد لكم, أنني أعتمد, في هذا الجواب الواضح الصريح, على حقائق عدة, لا مهرب لأحد من الاعتراف بها:
الحقيقة الأولى, إنه لا سعادة لأحد على حساب شقاء الآخرين.
الحقيقة الثانية, إنني لم أتحدث ولن أتحدث بلغتين, ولم أتعامل ولن أتعامل بسياستين.
ولست أتعامل مع أحد, إلا بلغة واحدة, وسياسة واحدة, ووجه واحد.
الحقيقة الثالثة, إن المواجهة المباشرة والخط المستقيم, هما أقرب الطرق وأنجحها
للوصول إلى الهدف الواضح.
الحقيقة الرابعة, إن دعوة السلام الدائم, العادل, المبني على احترام قرارات الأمم
المتحدة, أصبحت اليوم دعوة العالم كله, وأصبحت تعبيرا واضحا
عن إرادة المجتمع الدولي, سواء في العواصم الرسمية, التي تصنع
السياسة وتتخذ القرار, أو على مستوى الرأي العام العالمي الشعبي,
ذلك الرأي العام الذي يؤثر في صنع السياسة واتخاذ القرار.
الحقيقة الخامسة, ولعلها أبرز الحقائق وأوضحها, إن الأمة العربية لا تتحرك في
سعيها من أجل السلام الدائم, العادل, من موقع ضعف أو اهتزاز,
بل إنها على العكس تماما, تملك من مقومات القوة والاستقرار ما
يجعل كلمتها نابعة من إرادة صادقة نحو السلام. صادرة عن إدراك
حضاري أنه لكي تتجنب كارثة محققة, علينا وعليكم وعلى العالم
كله, فإنه لا بديل من إقرار سلام دائم, وعادل, لا تزعزعه الأنواء,
ولا تعبث به الشكوك, ولا يهزه سوء المقاصد أو التواء النوايا.
من واقع هذه الحقائق, التي أردت أن أضعكم في صورتها كما أراها, أرجو أيضا أن أحذركم, لكل الصدق, أحذركم من بعض الخواطر, التي يمكن أن تطرأ على أذهانكم.
إن واجب المصارحة يقتضي أن أقول لكم ما يلي :
أولا: إنني لم أجئ إليكم لكي أعقد اتفاقا منفردا بين مصر وإسرائيل. ليس هذا واردا
في سياسة مصر. فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل. وأي سلام منفرد بين
مصر وإسرائيل, أو بين أية دولة من دول المواجهة وإسرائيل, فإنه لن يقيم
السلام الدائم, العادل, في المنطقة كلها. بل أكثر من ذلك, فإنه حتى لو تحقق
السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل, بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية,
فإن ذلك لن يحقق أبدا السلام الدائم, العادل, الذي يلح العالم كله اليوم عليه.
ثانيا: إنني لم أجئ إليكم لكي أسعى إلى سلام جزئي, بمعنى أن ننهي حالة الحرب
في هذه المرحلة, ثم نرجئ المشكلة برمتها إلى مرحلة تالية. فليس هذا هو
الحل الجذري, الذي يصل بنا إلى السلام الدائم.
ويرتبط بهذا, أنني لم أجئ إليكم لكي نتفق على فض اشتباك ثالث في سيناء, أو في سيناء والجولان والضفة الغربية. فإن هذا يعني أننا نؤجل فقط اشتعال الفتيل إلى أي وقت مقبل, بل هو يعني, أننا نفتقد شجاعة مواجهة السلام, وأننا أضعف من أن نتحمل أعباء ومسؤوليات السلام الدائم, العادل.
لقد جئت إليكم لكي نبني معا السلام الدائم, العادل, حتى لا تراق نقطة دم واحدة من جسد عربي أو إسرائيلي.
ومن أجل هذا, أعلنت أنني مستعد لأن أذهب إلى آخر العالم.
وهنا نعود إلى الإجابة عن السؤال الكبير: كيف نحقق السلام الدائم, العادل؟
في رأيي, وأعلنها من هذا المنبر للعالم كله, أن الإجابة ليست مستحيلة, ولا خي بالعسيرة, على الرغم من مرور أعوام طويلة من ثأر الدم, والأحقاد الكراهية, وتنشئة أجيال على القطيعة الكاملة, والعداء المستحكم. الإجابة ليست عسيرة, ولا هي مستحيلة, إذا طرقنا سبيل الخط المستقيم بكل الصدق والأمانة.
أنتم تريدون العيش معنا في هذه المنطقة من العالم. وأنا أقول لكم, لكل الإخلاص, إننا نرحب بكم بيننا, بكل الأمن والأمان.
إن هذا في حد ذاته, يشكل نقطة تحول هائلة من علامات تحول تاريخي حاسم.
لقد كنا نرفضكم, وكانت لنا أسبابنا ودعوانا.. نعم.
لقد كنا نرفض الاجتماع بكم, في أي مكان.. نعم.
لقد كنا نصفكم بإسرائيل المزعومة.. نعم.
لقد كانت تجمعنا المؤتمرات أو المنظمات الدولية, وكان ممثلونا, ولا يزالزن, لا يتبادلون التحية والسلام.. نعم.
حدث هذا, ولا يزال يحدث.
لقد كنا نشترط لأي مباحثات وسيطا, يلتقي كل طرف على انفراد.. نعم.
هكذا تمت مباحثات فض الاشتباك الأول. وهكذا أيضا تمت مباحثات فض الاشتباك الثاني.
كما أن ممثيلينا التقوا في مؤتمر جنيف الأول, دون تبادل كلمة مباشرة.. نعم. هذا حدث.
ولكنني أقول لكم اليوم, وأعلن للعالم كله, إننا نقبل بالعيش معكم في سلام دائم وعادل. ولا نريد أن نحيطكم أو أن تحيطونا بالصواريخ المستعدة للتدمير, أو بقذائف الأحقاد والكراهية.
ولقد أعلنت أكثر من مرة, أن إسرائيل أصبحت حقيقة واقعة, اعترف بها العالم, وحملت القوتان العظميان مسؤولية أمنها وحماية وجودها. ولما كنا نريد السلام, فعلا وحقا, فإننا نرحب بأن تعيشوا بيننا, في أمن وسلام, فعلا وحقا.
لقد كان بيننا وبينكم جدار ضخم مرتفع, حاولتم أن تبنوه على مدى ربع قرن من الزمان. ولكنه تحطم في عام 1973.
كان جدارا من الحرب النفسية, المستمرة في التهابها وتصاعدها.
كان جدارا من التخويف بالقوة, القادرة على اكتساح الأمة العربية, من أقصاها إلى أقصاها.
كان جدارا من الترويج, أننا أمة تحولت إلى جثة بلا حراك, بل إن منكم من قال إنه حتى بعد مضي خمسين عاما مقبلة, فلن تقوم للعرب قائمة من جديد.
كان جدارا يهدد دائما بالذراع الطويلة, القادرة على الوصول إلى أي موقع وإلى أي بعد.
كان جدارا يحذرنا من الإبادة والفناء, إذا نحن حاولنا أن تستخدم حقنا المشروع في تحرير أرضنا المحتلة.
وعلينا أن نعترف معا بأن هذا الجدار, قد وقع وتحطم في عام 1973, ولكن, بقي جدار آخر. هذا الجدار الآخر, يشكل حاجزا نفسيا معقدا بيننا وبينكم. حاجزا من الشكوك, حاجزا من النفور, حاجزا من خشية الخداع, حاجزا من الأوهام حول أي تصرف أو فعل أو قرار, حاجزا من التفسير الخاطئ لكل حدث أو حديث.
وهذا الحاجز النفسي, هو الذي عبرت عنه في تصريحات رسمية, بأنه يشكل سبعين في المائة من المشكلة.
وإنني أسألكم اليوم, بزيارتي لكم, لماذا لا نمد أيادينا, بصدق وإيمان وإخلاص, لكي نحطم هذا الحاجز معا؟
لماذا لا تتفق إراداتنا, بصدق وإيمان وإخلاص, لكي نزيل معا كل شكوك الخوف والعذر والتواء المقاصد وإخفاء حقائق النوايا؟
لماذا لا تنصدى معا, بشجاعة الرجال, وبحسارة الأبطال, الذين يهبون حياتهم لهدف أسمى؟
لماذا لا نتصدى معا, بهذه الشجاعة والجسارة, لكي نقيم صرحا شامخا للسلام, يحمي ولا يهدد, يشع لأجيالنا القادمة أضواء الرسالة الإنسانية نحو البناء والتطور ورفعة الإنسان؟
لماذا نورث هذه الأجيال نتائج سفك الدماء, وإزهاق الأرواح, وتيتيم الأطفال, وترمل الزوجات, وهدم الأسر, وأنين الضحايا؟
لماذا لا نؤمن بحكمة الخالق, التي أوردها في أمثال سليمان الحكيم:
" الغش في قلب الذين يفكرون في الشر. أما المبشرون بالسلام, فلهم فرح ".
" لقمة يابسة, ومعها سلامة, خير من بيت مليء بالذبائح, مع الخصام ".
لماذا لا نردد معا من مزامير داوود النبي :
"إليك, يا رب, أصرخ. اسمع صوت تضرعي, إذا استغثت بك. وأرفع يدي إلى محراب قدسك, لا تجذبني مع الأشرار ومع فعلة الإثم, المخاطبين أصحابهم بالسلام, والشر في قلوبهم. أعطهم حسب فعلهم, وحسب شر أعمالهم. أطلب السلامة وأسعى وراءها".
أيها السادة
الحق أقول لكم, إن السلام لن يكون اسما على مسمى, ما لم يكن قائما على العدالة, وليس على احتلال أرض الغير. ولا يسوغ أن تطلبوا لأنفسكم ما تنكرونه على غيركم.
وبكل صراحة, وبالروح التي حدت بي على القدوم إليكم اليوم, فإني أقول لكم, إن عليكم أن تتخلوا, نهائيا, عن أحلام الغزو, وأن تتخلوا, أيضا, عن الاعتقاد بأن القوة هي خير وسيلة للتعامل مع العرب.
إن عليكم أن تستوعبوا جيدا دروس المواجهة بيننا وبينكم, فلن يجيدكم التوسع شيئا.
ولكي نتكلم بوضوح, فإن أرضنا لا تقبل المساومة, وليست عرضة للجدل. إن التراب الوطني والقومي, يعتبر لدينا في منزلة الوادي المقدس طوى, الذي كلم فيه الله موسى - عليه السلام. ولا يملك أي منا, ولا يقبل أن يتنازل عن شبر واحد منه, أو أن يقبل مبدأ الجدل والمساومة عليه.
والحق أقول لكم أيضا, إن أمامنا, اليوم, الفرصة السانحة للسلام, وهي فرصة لا يمكن أن يجود بمثلها الزمان, إذا كنا جادين حقا في النضال من أجل السلام.
وهي فرصة, لو أضعناها, أو بددناها, فلسوف تحل بالمتآمر عليها لعنة الإنسانية, ولعنة التاريخ.
ما هو السلام بالنسبة إلى إسرائيل؟
· أن تعيش في المنطقة, مع جيرانها العرب, في أمن واطمئنان. هذا منطق أقول له نعم.
· أن تعيش إسرائيل في حدودها آمنة من أي عدوان. هذا منطق أقول له نعم.
· أن تحصل إسرائيل على كل أنواع الضمانات, التي تؤمن لها هاتين الحقيقتين. هذا مطلب أقول له نعم.
· بل إننا نعلن أننا نقبل كل الضمانات الدولية, التي تتصورونها, وممن ترضونه أنتم.
· نعلن أننا نقبل كل الضمانات, التي تريدونها من القوتين العظميين, أو من إحداهما, أو من الخمسة الكبار, أو من بعضهم.
· وأعود فأعلن, بكل الوضوح, أننا قابلون بأي ضمانات ترتضونها, لأننا في المقابل, سنأخذ نفس الضمانات.
خلاصة القول, إذا, عندما نسأل : ما هو السلام بالنسبة إلى إسرائيل؟
يكون الرد هو أن تعيش إسرائيل في حدودها مع جيرانها العرب في أمن وأمان, وفي إطار كل ما ترتضيه من ضمانات, يحصل عليها الطرف الآخر.
ولكن كيف يتحقق هذا؟ كيف يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة, لكي نصل بها إلى السلام الدائم, العادل؟
هناك حقائق لا بد من مواجهتها, بكل شجاعة ووضوح.
·
هناك أرض عربية احتلتها, ولا تزال تحتلها, إسرائيل بالقوة المسلحة, ونحن نصر على تحقيق الانسحاب الكامل منها, بما فيها القدس العربية.
القدس التي حضرت إليها باعتبارها مدينة السلام, والتي كانت, وسوف تظل على الدوام, التجسيد الحي للتعايش بين المؤمنين بالديانات الثلاث.
·
وليس من المقبول أن يفكر أحد في الوضع الخاص لمدينة القدس, في إطار الضم أو التوسع. وإنما يجب أن تكون مدينة حرة, مفتوحة لجميع المؤمنين.
·
وأهم من كل هذا, فإن تلك المدينة, يجب ألا تفصل عن هؤلاء الذين اختاروها مقرا ومقاما لعدة قرون.
·
وبدلا من إيقاذ أحقاد الحروب الصليبية, فإننا يجب أن نحيي روح عمر بن الخطاب وصلاح الدين, أي روح التسامح واحترام الحقوق.
·
إن دور العبادة, الإسلامية والمسيحية, ليست مجرد أماكن لأداء الفرائض والشعائر, بل إنها تقوم شاهد صدق على وجودنا, الذي لم ينقطع في هذا المكان, سياسيا وروحيا وفكريا.
· وهنا, فإنه يجب ألا يخطئ أحد تقدير الأهمية والإجلال اللذين نكنهما للقدس, نحن معشر المسيحيين والمسلمين.
ودعوني أقل لكم, بلا أدنى تردد, إنني لم أجىء إليكم تحت هذه القبة, لكي أتقدم برجاء أن تجلوا قواتكم من الأرض المحتلة. إن الانسحاب الكامل من الأرض المحتلة بعد 1967, أمر بديهي, لا نقبل فيه الجدل, ولا رجاء فيه لأحد أو من أحد.
ولا معنى لأي حديث عن السلام الدائم, العادل, ولا معنى لأي خطوة لضمان حياتنا معا في هذه المنطقة من العالم, في أمن وأمان, وأنتم تحتلون أرضا عربية بالقوة المسلحة. فليس هناك سلام يستقيم أو يبنى, مع احتلال أرض الغير.
نعم, هذه بديهية, لا نقبل الجدل والنقاش, إذا خلصت النوايا وصدق النضال, لإقرار السلام الدائم, العادل, لجيلنا ولكل الأجيال من بعدنا.
· أما بالنسبة للقصية الفلسطينية, فليس هناك من ينكر أنها جوهر المشكلة كلها, وليس هناك كم يقبل, اليوم, في العالم كله, شعارات رفعت هنا في إسرائيل, تتجاهل وجود شعب فلسطين, بل تتساءل أين هو هذا الشعب؟
· إن قضية شعب فلسطين, وحقوق شعب فلسطين المشروعة, لم تعد, اليوم, موضوع تجاهل أو إنكار من أحد. بل لا يحتمل عقل يفكر أن تكون موضع تجاهل أو إنكار.
· إنها واقع استقبله المجتمع الدولي, غربا وشرقا, بالتأييد والمساندة والاعتراف, في مواثيق دولية وبيانات رسمية, لن يجدي أحدا أن يصم أذنيه عن دويها المسموع, ليل نهار, أو أن يغمض عينيه عن حقيقتها التاريخية, حتى الولايات المتحدة الأمريكية, حليفكم الأول, التي تحمل قمة الالتزام لحماية وجود إسرائيل وأمنها, والتي قدمت, وتقدم إلى إسرائيل كل عون معنوي ومادي وعسكري. أقول حتى الولايات المتحدة اختارت أن تواجه الحقيقة والواقع, وأن تعترف بأن للشعب الفلسطيني حقوقا مشروعة, وأن المشكلة الفلسطينية هي قلب الصراع وجوهره, وطالما بقيت معلقة دون حل, فإن النزاع سوف يتزايد ويتصاعد, ليبلغ أبعادا جديدة. وبكل الصدق, أقول لكم إن السلام لا يمكن أن يتحقق بغير الفلسطينيين, وإنه لخطأ جسيم, لا يعلم مداه أحد, أن نغمض الطرف عن تلك القضية, أو ننحيها جانبا.
· ولن أستطرد في سرد أحداث الماضي, منذ صدر وعد بلفور لستين عاما خلت, فأنتم على بينة من الحقائق جيدا.
· وإذا كنتم قد وجدتم المبرر, القانوني والأخلاقي, لإقامة وطن قومي على أرض, لم تكن كلها ملكا لكم, فأولى بكم أن تتفهموا إصرار شعب فلسطين على إقامة دولته من جديد في وطنه.
· وحين يطالب بعض الغلاة المتطرفين أن يتخلى الفلسطينيون عن هذا الهدف الأسمى, فإن معناه, في الواقع وحقيقة الأمر, مطالبة لهم بالتخلي عن هويتهم, وعن كل أمل لهم في المستقبل.
· إنني أحيي أصواتا إسرائيلية, طالبت بالاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني, وصولا إلى السلام, وضمنا له. ولذلك, فإنني أقول, أيها السيدات والسادة, إنه لا طائل من وراء عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقوقه في إقامة دولته وفي العودة. لقد مررنا, نحن العرب, بهذه التجربة من قبل, معكم, ومع حقيقة الوجود الإسرائيلي, وانتقل بنا الصراع من حرب إلى حرب, ومن ضحايا إلى مزيد من الضحايا, حتى وصلنا, اليوم, نحن وأنتم, إلى حافة هاوية رهيبة وكارثة مروعة, إذا نحن لم نغتنم اليوم معا فرصة السلام الدائم والعادل.
· عليكم أن تواجهوا الواقع مواجهة شجاعة, كما واجهته أنا.
· ولا حل لمشكلة أبدا بالهروب منها, أو بالتعالي عليها.
· ولا يمكن أن يستقر سلام بمحاولة فرض أوضاع وهمية, أدار لها العالم كله ظهره, وأعلن نداءه الإجماعي بوجوب احترام الحق والحقيقة.
· ولا داعي للدخول في الحلقة المفرغة مع الحق الفلسطيني.
· ولا جدوى من خلق العقبات, إلا أن تتأخر مسيرة السلام, أو أن يقتل السلام.
وكما قلت لكم, فلا سعادة لأحد على حساب شقاء الآخرين. كما أن المواجهة المباشرة والخط المستقيم, هما أقرب الطرق وأنجحها للوصول إلى الهدف الواضح. والمواجهة المباشرة للمشكلة الفلسطينية, واللغة الواحدة لعلاجها نحو سلام دائم, عادل, هو في أن تقوم دولته.
ومع كل الضمانات الدولية, التي تطلبونها, فلا يجوز أن يكون هناك خوف من دولة وليدة, تحتاج إلى معونة كل دول العالم لقيامها. وعندما تدق أجراس السلام, فلن توجد يد لتدق طبول الحرب, وإذا وجدت, فلن يسمع لها صوتٌ.
وتصوروا معي اتفاق سلام في جنيف, نزفه إلى العالم المتعطش إلى السلام. إتفاق سلام يقومً على :
أولا: إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية, التي أحتلت في عام 1967.
ثانياً: تحقيق الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني, وحقه في تقرير المصير, بما
في ذلك حقه في إقامة دولته.
ثالثا: حق كل دول المنطقة في العيش في سلام داخل حدودها الآمنة,
والمضمونة عن طريق إجراءات يتفق عليها, تحقق الأمن المناسب
للحدود الدولية, بالإضافة إلى الضمانات الدولية المناسبة.
رابعا: تلتزم كل دول المنطقة بإدارة العلاقات فيما بينها, طبقا لأهداف ومبادئ
ميثاق الأمم المتحدة, وبصفة خاصة عدم الالتجاء إلى القوة, وحل
الخلافات بينها بالوسائل السلمية.
خامسا: إنهاء حالة الحرب القائمة في المنطقة.
أيها السيدات والسادة
إن السلام ليس توقيعا على سطور مكتوبة, بل إنه كتابة جديدة للتاريخ, إن السلام ليس مباراة في المناداة به, للدفاع عن أية شهوات أو لستر أية أطماع, فالسلام, في جوهره, نضال جبار ضد كل الأطماع والشهوات. ولعل تجارب التاريخ, القديم والحديث, تعلمنا جميعا أن الصواريخ والبوارج والأسلحة النووية, لا يمكن أن تقيم الأمن, ولكنها على العكس تحطم كل ما يبنيه الأمن.
وعلينا, من أجل شعوبنا, من أجل حضارة صنعها الإنسان, أن نحمي الإنسان في كل مكان, من سلطان قوة السلاح.
علينا أن نعلي سلطان الإنسانية بكل قوة القيم والمبادئ, التي تعلي مكانة الإنسان.
وإذا سمحتم لي أن أتوجه بندائي من هذا المنبر إلى شعب إسرائيل, فإنني أتوجه بالكلمة الصادقة الخالصة, إلى كل رجل وامرأة وطفل في إسرائيل,
· إنني أحمل إليكم من شعب مصر, الذي يبارك هذه الرسالة المقدسة من أجل السلام, أحمل إليكم رسالة السلام, رسالة شعب مصر, الذي لا يعرف التعصب, والذي يعيش أنباؤه, من مسلمين ومسيحيين ويهود, بروح المودة والحب والتسامح. هذه هي مصر, التي حملني شعبها أمانة الرسالة المقدسة, رسالة الأمن والأمان والسلام.
· فيا كل رجل وامرأة وطفل في إسرائيل: شجعوا قيادتكم على نضال السلام, ولتتجه الجهود إلى بناء صرح شامخ للسلام, بدلا من بناء القلاع والمخابئ المحصنة بصواريخ الدمار. قدموا للعالم صورة الإنسان الجديد في هذه المنطقة من العالم, لكي يكون قدوة الإنسان العصر, إنسان السلام في كل موقع ومكان.
· بشروا أبناءكم, أن ما مضى هو آخر الحروب ونهاية الآلام, وأن ما هو قادم هو البداية الجديدة, للحياة الجديدة, حياة الحب والخير والحرية والسلام.
· ويا أيتها الأم الثكلى,
· ويا أيتها الزوجة المترملة,
· ويا أيها الابن الذي فقد الأخ والأب,
· يا كل ضحايا الحروب,
- إملأوا الأرض والفضاء بتراتيل السلام.
- إملأوا الصدور والقلوب بآمال السلام.
- إجعلوا الأنشودة حقيقة تعيش وتثمر.
- إجعلوا الأمل دستور عمل ونضال.
وإرادة الشعوب هو من إرادة الله.
أيها السيدات والسادة
قبل أن أصل إلى هذا المكان, توجهت بكل نبضة في قلبي, وبكل خلجة في ضميري, إلى الله - سبحانه وتعالى - وأنا أؤدي صلاة العيد في المسجد الأقصى, وأنا أزور كنيسة القيامة, توجهت إلى الل - سبحانه وتعالى - بالدعاء أن يلهمني القوة, وأن يؤكد يقين إيماني بأن تحقق هذه الزيارة أهدافها, التي أرجوها, من أجل حاضر سعيد, ومستقبل أكثر سعادة.
لقد اخترت أن أخرج على كل السوابق والتقاليد, التي عرفتها الدول المتحاربة, ورغم أن احتلال الأرض العربية ما زال قائما, بل كان إعلاني عن استعدادي للحضور إلى إسرائيل مفاجأة كبرى, هزت كثيرا من المشاعر, وأذهلت كثيرا من العقول, بل شككت في نواياها بعض الآراء, برغم كل ذلك, فإنني استلهمت القرار بكل صفاء الإيمان وطهارته, وبكل التعبير الصادق عن إرادة شعبي ونواياه, واخترت هذا الطريق الصعب, بل إنه في نظر الكثيرين أصعب طريق.
إخترت أن أحضر إليكم, بالقلب المفتوح والفكر المفتوح.
إخترت أن أعطي هذه الدفعة لكل الجهود العالمية المبذولة من أجل السلام.
إخترت أن أقدم لكم, وفي بيتكم, الحقائق المجردة عن الأغراض والأهواء.
لا لكي أناور, ولا لكي أكسب دولة, ولكن لكي نكسب معا أخطر الجولات والمعارك في التاريخ المعاصر, معركة السلام العادل والدائم.
إنها ليست معركتي فقط, ولا هي معركة القيادات فقط في إسرائيل, ولكنها معركة كل مواطن على أرضنا جميعا, من حقه أن يعيش في سلام. إنها التزام الضمير والمسؤولية في قلوب الملايين.
وقد تساءل الكثيرون, عندما طرحت هذه المبادرة, عن تصوري لما يمكن إنجازه في هذه الزيارة, وتوقعاتي منها. وكما أجبت السائلين, فإنني أعلن أمامكم أنني لم أفكر في القيام بهذه المبادرة من منطلق ما يمكن تحقيقه أثناء الزيارة, وإنما جئت هنا لكي رسالة.
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
اللهم إنني أردد مع زكريا قوله: " أحبوا الحق والسلام" .
وأستلهم آيات الله - العزيز الحكيم - حين قال : " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " صدق الله العظيم. والسلام عليكم.